لاحت النار أمامه كأنها المنقذ الوحيد لمشكلة يعاني منها المئات من
الجبليين بسبب الفقر والقحط والاحتلال، فقام على الفور ووضع قدميه
في النار رويداً رويداً حتى اشتم رائحة اللحم المحترق، فأخرجهما من
النار ووضعهما بالماء، وهكذا، إسقاء وإحماء إلى أن مات اللحم نهائياً
ووصل إلى مرحلة أصبحت قدماه تشبه خفي جمل، وبقيت على هذه
الحال حتى توفاه الله. وكان حذاؤه قد تقطّع، ولم يعد ممكناً أن يرقعه
أكثر من ذلك، ولا مجال لشراء حذاء آخر، فهل يجلس في البيت بانتظار
المعجزة ويترك رفاقه يقاتلون وحدهم؟!
والمجاهد الشيخ "محمد حسين خيو" المولود في قرية "رضيمة اللوى"
عام 1899 التحق بالثورة السورية الكبرى عندما نشبت في منطقة
"اللجاة" وكان من عداد عصابة "سعيد عز الدين"، وعرف آنذاك بأنه
رأس حربي لا يشق له غبار.
يقول الأستاذ "محمود خيو" لموقع eSuweda : «كان عمي الذي
رحل عنا عام 1989، أحد الذين التحقوا مع الكثيرين من أهله لمقاومة
الاحتلال الفرنسي، ويقول في إحدى المقابلات الصحفية معه سابقاً: "بعد
وصول الفرنسيين حاولوا دخول اللجاة من أربع جهات، فتجمع
المجاهدون إلى الغرب من قرية "أم حارتين" ومعهم عائلاتهم والقليل
من المؤونة، وكان الهدف وضع خطة المقاومة، وقرروا إرسال
عائلاتهم من نساء وأطفال إلى "تل اشهيب" على بعد حوالي 30
كيلومتراً إلى الشرق من اللجاة وكان الهدف من ذلك أن يقاتلوا وهم
مطمئنين على عيالهم، وكانت العصابة تضم "محمد عز الدين" و"سعيد
عز الدين" و"عبد الحميد
العك" و"شاهين المجاهد محمد حسين خيوعبيد" و"ابراهيم خيو"
و"قاسم الزربة" و"حسن خيو" و"هلال مكارم" و"عبد الغفار عز
الدين" و"سعيد عبيد" و"غالب خزاعي عز الدين" وعدد آخر لم أستطع
تذكر أسمائهم، وكان أول لقاء مع العدو في اللجاة حول "قوس نجمة"
وبقي القتال من الصباح حتى المساء، كبدنا العدو خسائر كبيرة وأوقفنا
زحفه واستشهد منا شاب لم يمض على زواجه إلا قليلاً هو "حسن
خيو"».
ويتابع الأستاذ "محمود" سرده لوقائع تلك الأيام من حياة المجاهد
"محمد خيو" قائلاً: «بعد أن استولى الفرنسيون على القرى وتوقفوا
عن متابعة الثوار في اللجاة بدأ هؤلاء بشن الغارات على الأعداء بشكل
يومي، ما دعا القيادة الفرنسية لإرسال عدة فرق عسكرية عبر اللجاة
مدعومة بالطائرات لقصف مواقع الثوار وإخراجهم منها، وكانت
المعركة الثانية في "قلاع الجف" حيث استشهد المجاهد "حمد مكارم"،
ونتيجة للخسائر الكبيرة التي لقيها الفرنسيون بالعدد والعدة لم يعد يجرؤ
على دخول اللجاة، وكانت المشكلة الكبيرة بالنسبة للفرنسيين طوال تلك
الأيام هي الوصول إلى المياه حيث استطاع الثوار ببسالة نادرة أن
يصدوا الحملات المتوالية للاقتراب من آبار المياه، وعندما يئس العدو
من السيطرة على اللجاة قام بشن الغارات على الثوار وتكثيف حملات
المشاة حولهم وضرب حصاراً كاملاً على المنطقة بالإضافة إلى وضع
الألغام في البيوت بعد استيلائه على القرى التي لم يبق فيها سوى
العجزة، ما اضطر الثوار إلى الانتقال إلى منطقة الصفا شرقاً على بعد 40كم
من اللجاة حيث ظلوا على هذه الحال متنقلين في المغائر مع أسرهم مدة
خمس سنوات، ولم يستطع الاحتلال بكل جبروته أن يفت عزائمهم أو
يحتل مواقع المياه في "قاع البنات" و"قاع السبلان" و"سوح عوض"
و"سوح حسين"، وعلى الرغم من كل الإغراءات بالمال والجاه التي
كانت تغدق على الثوار للدلالة على مكان قائد العصابة "سعيد عز
الدين" أو قتله، إلا أن ذلك لم يكن يجلب للفرنسيين إلا الخيبة».
أما عن حياة المجاهد "محمد خيو" بعد الجلاء فقال حفيده "خلدون
خيو" لموقعنا: «عاش جدي كغيره من السوريين يزرع الأرض
ويحصدها ولكنه تابع حياته مثلما بدأها، فلم تعد قدماه إلى طبيعتها أبداً
وضل مواضباً على نفس الطريقة التي كان يستعملها في شي قدميه
بالنار في الصيف والشتاء إلى أن انتقل إلى جوار ربه عام 1989».[i]