حضنت أبناءها في رحم التضحية، فكانت أرحامهن مصانع للثوار، تدفع بهم الواحد تلو الآخر لمقارعة العدو الغاصب، لذلك عمدوا إلى استئصال الأرحام وبقر البطون التي تلد الأحرار، ظناً منهم أنهم يستأصلون روح المقاومة من الأحشاء.
فمن غيرها يرضع للأطفال حليباً ممزوجاًبطعم الوطن ورائحة ترابه، ومن سواها لقنت الأبناء في المهد أحرف الانتفاضة وأبجدية الآباء و الرجولة قبل المناغاة، ثم سهرت على انشاء جيل مؤمن بقضيته بقلبه و عقله، وصرفتهم عن ألعاب الطفولة و لهوها، و بحثت عن حجارة بحجم وطن مسلوب، و ملأت بها حقائبهم المدرسية و الكتب جنباً إلى جنب، فكانوا بحق أطفال الحجارة وأبطال الانتفاضة، ذاع صيتهم وتمنى أطفال العالم كله أن يجاروهم في البطولة، ولكنهم هم مختلفون لأنهم ولدوا من رحم المعاناة، و لأمهات كن مدارس و معلمات في التضحية، و لأنها تخاف على أبنائها فقد امتد هذا الخوف ليشمل حدود الوطن كله،فهو أغلى منهم ،وعليهم أن يضحوا ويبذلوا الغالي و الرخيص في سبيل عودته حراً.
قد تدهش أمهات العالم و هن يرين تلك الأم تروي بهدوء كيف قبلت ابنها الذاهب إلى لحظة الاستشهاد، وكيف قرأت له سورة الفاتحة و دعت له بالتوفيق في تنفيذ مهمته، و كانت متماسكة متحلية بالصبر والسكينة و هي على يقين أنه اللقاء الأخير.
وعندما نتحدث عن أمهات غزة، لا نقصد تحجيم تضحية بقية الأمهات، و لكن تلك الأم تعبر عن أمة ما زالت مثقلة بالهموم، و البعض منهم ما زلن في غياهب السجون، و منهن من أنجبن خلف القضبان وعلى الحواجز الأمنية، أو أدركهن الموت قبل الانجاب بسبب الحصار الجائر.
مهمتهن مضاعفة
وهي إن لم تكن أماً لشهيد فهي أم لبطل أو أسير، و من منا لا يذكر أم الشهيد محمد الدرة، وأم أصغر شهيدة في العالم إيمان حجو، و سلسلة لا تنتهي من الشهداء وأمهات الشهداء، ومع ذلك كن صابرات محتسبات الثواب عند الله، و لم يثنيهن الحزن عن دفع بقية الاخوة للانضمام إلى قافلة الشهداء، فامتلكن إلى جانب الصمود قوة الارادة.
وهنا لا ننسى الأمهات الفلسطينيات في الشتات، اللواتي عانين ألم الفراق و فقد الأحباب و الانتزاع من الأرض، فعاش الوطن في قلوبهن وفي حكايا يروينها للأبناء و الأحفاد وفي أهازيج حملت حزناً عميقاً وحنيناً لا ينتهي وما زالت عيونهن تتطلع للعودة، لذلك عملن على حث الأبناء على التعليم و العمل والانتاج و كانت مهماتهن كأمهات مضاعفة، فجهدن في سبيل حماية التقاليد والتراث الوطني وغرس مبادىء احترام القيم الوطنية.
فإلى كل أم مناضلة وإلى كل أم شهيد و أسير وبطل، كل عام و أنتن بخير، وسنكون كلنا أبناءكم و بناتكن، وستكونن أمهات لنا.