فرسه "الملح" متظاهراً بالتجارة، ربما كان ملح المقاومة، وعطرها أيام
الثورة السورية الكبرى عام 1925، وفي الحقيقة تجارته كانت نقل
المؤن والذخيرة والسلاح للثوار، من أصحاب المواقف الوطنية لاستمرار
المقاومة، التي أصبحت كالملح في الطعام عند الثوار والوطنيين
الأحرار، و"عواد الحمد" الاسم المستعار للثائر "سليمان العيسمي"
واحداً من هؤلاء.
زار حفيد "عواد الحمد" المهندس "كمال شكيب العيمسي" الذي روى
لنا قائلاً: «"عوادُ الحمد" بدويٌ طويلُ الجدائلِ رثُّ الثيابِ تفوحُ منه
رائحةُ الوطن أتى قبلَ ثمانينَ عاماً ونيفٍ مع الملاحةِ القادمةِ من واحةِ
"الأزرقِ" شرقِ الأردن، إلى قرى الجبلِ بائعاً للملح جاعلاً تجارة الملح
وسيلة مقاومة، إذ بعدَ أن وصلَ إلى ساحة قرية "أمتان" أناخَ جِمالَهُ
وعرضَ بضاعَته جانب النصبِ الروماني القائم حالياً وسط الميدان
ساحة "امتان" الكبرى، أمامَ مقعدِ الشيخ وبدء عملَهُ هذا الذي يقتضي
السّرية التامة والانضباط التام حيث يفرِّغُ أكياسَ ملحِهِ ويأخذ بدلاً عنها
الزادَ والمؤونة والخرطوش ممن يعرفُهُم من أهلِ البلدة أو متفقاً معه ليمدَّ
بها رفاقَهُ الثوّار، وهو بهذه الحال وإذ بصوتٍ دافئٍ يسألَهُ عن بضاعته
وشاءت الصدف أن تكون أمّه!».
وتابع الأستاذ "العيسمي" سرد الواقعة قائلاً: «أهي حقاً أمُّه أم احدٌ من
أصدقائه أو أنصاره دفعها لتراه ويراها؟، لحظاتٍ قاسية تقطعُ نياطَ
القلبِ، اشترت منه دون أن تعرفَهُ وكيفَ لها أن تعرفه فعليه ملامحُ
البادية ولهجتها، قال لنفسِهِ: ألهذا
المهندس كمال العيسميالحد يا "عوّاد" ؟ ألا تستطيع أن تُعرِفٌها بنفسك؟.
فكيف له والجندُ الفرنسيون من حولهِ وهو الذي يحوّل ملحه إلى قذى في
عيونهم ورصاصاً إلى صدورهم، همّت والدته أن تحمل ما اشترت من
ملح فنادى عليها بلهجةٍ صحراوية: «خل.خلّي عنكي أنا أزمّّهُم لكي»
قالت والدته: "بنفسها ما لهذا البدويّ الطيب انه صاحب معروف
ويعرف درب البيت"، وعندما وصلت إلى البيت أحاطها بذراعيه وراح
يقبّل رأسها فصاحت تنادي الأولياء.
فقال لها: "هدئي من روعك يا أماه أنا "سليمان" ولدك "سليمان"،
وسرَت بالجسم قشعريرة، وارتجفت الأوصال، وسالت الدموع غزيرة،
وكانت فرحة عظيمة، أن تلتقي بولدها المشرّد، الذي يفترش الأرض
ويلتحف السماء، من أجل الوطن، ومن اجل بيته، الذي انقلب وتطايرت
حجارته بديناميت المستعمرين وعملائهم، من أجل جياده الثلاثة، التي
سقطت تحته في معارك الثورة بقنابل ومدافع الأعداء ورصاصهم، أهداه
احدها الدكتور "عبد الرحمن الشهبندر" عدا فرسه التي سبيت منه في
"تل الشيح" جنوب قرية "أم الرمان" اثر مواجهة مع الفرنسيين، من
اجل دماء جراحه التي روت ارض معركة "أبو زريق"».
وأكد على الحادثة المعمر الشيخ "نجم جابر" الملقب "أبو حمد" الذي
شارف على القرن بالقول: «كان "عوّاد الحمد" ينبري لتنفيذ المهام
الخاصة والخطرة التي ترسمها قيادة الثورة من أجل دفع عجلة مقاومة
الاستعمار الفرنسي نحو أمام حتى اسماه القائد العام للثورة "سلطان باشا
الأطرش"، "برجل المهام الصعاب" ومن إيمانه القوي وحبه للمقاومة
كمقاوم مؤمن بعقيدته، كان يدخل القرى ليلاً وأحياناً نهاراً، عندما تدعو
الضرورة، كي يتصل مع أنصار الثورة، حتى داخل متطوعة جيش
المحتل، ويوزّع عليهم المهام ويجمع المؤونة والذخيرة منهم، لرفاقه
المشردين في الفيافي وشعاب الجبل القاطنين المغاور المتحملين شظف
العيش وآلام الجوع ورمال الصحراء ومياهها المالحة شرق الأردن في
"وادي السرحان" من ارض "الجوف"، كل همّهم أن يستقل الوطن
وينعم أبناؤه بالحرية من أجل أن يقرروا هم مصيرهم وليس غيرهم،
لعل "عواد الحمد" هذا الاسم المستعار والذي انشهر به طغى على اسمه
الحقيقي الذي هو المجاهد "سليمان حمد العيسمي"، المقاوم الدؤوب،
الذي رأى والدته ولم يستطع أن يقبل أياديها خوفاً من الفرنسيين
وعيونهم، حتى ذهب بحجة
الدكتور عبد الرحمن الشهبندرإيصال البضاعة لها للمنزل حتى عّرفها
بنفسه، وكانت لحظات الأم الحنون مع الولد الغائب بين المقاومين
والثوار لسنوات، فقد كان الجلاء الذي نسج من أعصاب ودماء آلاف
المجاهدين والشهداء طيلة عهود الاستعمار، وحرّية الوطن التي هي
ثمرة لسلسلة متصلة لنضال طويل ضحّى من أجله كل الشهداء الأبرار
والمناضلين الشرفاء بكل عزيمة وقوة على ساحة الوط