أهل الأنوار يقطعون على النفس كل الأعذار فيقال هيَّا لترى الغنائم التي جهَّزها لك الله عزَّ وجلَّ. والغنائم التي جهَّزها الله للصالحين، ليست في الدنيا الفانية، كالطعام والشراب، أو السيارات، أو العقارات، أو الدولارات، أو الوظائف هل هذه غنائم العارفين؟ لا بل إنها غنائم الجاحدين، ومن فينا يلحق اليهود في ذلك؟
أما غنائم الصَّالحين التي نبحث عنها:
(آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )(65 سورة الكهف)
يريد أن يحظى بتعلِّيم الله له ، علماً بغير تعلم. ولا يشترط لهذا العلم أن يكون الإنسان حاصلاً على ماجستير أو دكتوراه، أو حتى يعرف القراءة والكتابة، ولذلك فإن الإمام أبو العزائم يقول في هذا المقام:
كم جاهل نال علماً من مجالسهم
أضحى حليماً عليماً بالإشارات
أضحى ولياً له قلبٌ و معرفة
يرى النبي عياناً حال خلوات
هذه هي الغنائم لمن يريد الغنائم يا إخواني، ولمن يريد الفتح من الفتَّاح.
وأصحاب العزائم كانوا على هذا المنوال
وقد كان سيدي أحمد البدوي رَضِيَ الله عنه وأرضاه رجلاً من الرجال جاءه سيدي أحمد الرفاعي، وسيدي عبدالقادر الجيلاني في المنام، وهو يعبد الله عزَّ وجلَّ، ويتوجه إليه في غار حراء بمكة، وكان من عزيمته ألا يصلي الصلوات الخمس إلا في البيت الحرام، ويرجع ثانية للغار
ما الذي يخرق للرجال الكرامات؟
العزيمة في الشدات ، تحول أحوالهم إلى كرامات، ولأنه يعزم العزم الأكيد، فيستجيب الله له كأن يُلين له الصخر!، أو يطوي له الأرض، أو يحمله على الريح، ليحقق مراده ؛ فتحدث الكرامات التي نسمع عنها ونراها من الصالحين رضي الله عزَّ وجلَّ عنهم أجمعين .
لكن إذا كان الواحد مستسلماً للنفس، فأي كرامة هذه التي يريدها؟، وأكبر كرامة له في هذه الحالة أن يخرج من رقِّ نفسه، ويقتحم العقبة، ويفك رقبته، وهواه؛ لكي يتجه فوراً مسارعاً إلى مولاه.
كما قلنا كان يصلي الصلوات الخمس في الكعبة، وعندما جاءه سيدي أحمد الرفاعي وسيدي عبدالقادر الجيلاني قالا له:
نريدك أن تزور العراق، وهذا هو مفتاح العراق، والمفتاح هنا هو المفتاح الروحاني، وليس مفتاح المباني، فرد عليهم قائلاً:
أنا لا آخذ المفتاح، إلا من يد الفتَّاح لابد من علوِّ العزيمة.
قال الإمام علي كرَّم الله وجهه عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ الإيمَان (1)
فما الدليل على أن الإيمان رابٍ ونامٍ عندك ؟أن يكون عندك همةٌ وعزيمة ، وقد قال الإمام أبو العزائم في ذلك :
عَلُّوا عزائمكم هيَّــــــــا واعشقوا
لتشاهدوا عدن الجنان وحورها
فما بالكم بمن يريد الله؟إذا كان من يريد الجنَّة عليه أن يعلي العزيمة، كأن يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتلو القرآن، ويغتنم كل وقته في طاعة الله.
لكن من يريد الله فيلزم أن يكون كلُّه، وماله ، وأنفاسه ، وأولاده ، وحياته . كلــــــها لله:
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
(162سورة الأنعام)
وقد نجد بعض إخواننا القدوة ، يعملون بالتجارة ، متعللين أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يشتغل بالتجارة، مع أن عنده ما يكفيه والرد عليهم أن حضرة النبي اشتغل بالتجارة لفترة، لكن عندما كلَّفه الله، ترك كل شيء للاشتغال بمولاه عزَّ وجلَّ، وذلك لأنها تجارة واحدة :
( تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (29سورة فاطر)
لكن هل تنفع التجارة التي لن تبور مع التجارة التي تبور؟ الإثنان مع بعضهما؟كلا. فإما هذه ، أو تلك
ومن يريد الله، عليه أن يصبح كله لمولاه أنفاسه ، حركاته ، سكناته ، حياته كلها لله عزَّ وجلَّ ويقول لحضرة الله : إِنَّا لِلّهِ )
وهنا يعبِّر بنون الجمع إنَّا يعني أنا ، ونفسي ، وروحي ، وعقـلي ، وسرِّي ، وكلِّي ، ومالي ، وأهلي لله ( وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) (156) سورة البقرة
هنا يتحقق الرجوع ، ويرجع الإنسان .لكن يقول : إنا لله ، وهو مشغول بالكليَّة بنفسه ، أو بحظِّه ، وهواه ، والله عزَّ وجلَّ لا يرضى أن يشتغل العبد بسواه إذا أراد الله عزَّ وجلَّ .فإذا أردت الله فعليك :
فرِّغ القلب من سوانا ترانا يا مريداً جمالنا و بهانا
واعلُ فوق البراق ليــلاً فإنَّا نتجلَّى ليــلاً لمن يهوانا
وهذا هو الطريق لمن يريد الله فيأخذونه ، ويشقُّوا صدره ، ويخرجوا منه حظَّ الشيطان وحظُّ الشيطان في الإنسان جمعه الله في كلمة واحدة:
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) (47 سورة الحجر)
وإياك أن تبدأ إلى الله إلا عندما تتأكد انك تخلصت من الغلِّ تماماً ؛ لأنك بذلك لن تمشي ولا خطوة اعبد كما شئت، واذكر الله كلما أردت
لكن كل ذلك لن يرفع الحجب بينك وبين الله، ولن ينفعك في القرب من حضرة الله، إلا إذا تخلَّصت قبل ذلك من كلِّ ما في صدرك نحو خلق الله، من الغلِّ، والكبر، والحسد، والكره، والهوى .
فلا يوجد من تخلع عليه خلعة الرجال ويقرب من السادة الإبدال وفي نفسه أو قلبه هوى لغير الواحد المتعال عزَّ وجلَّ.
لكن إذا كان هواي مع فلان ، أو فلان ، أو مع الدرهم ، والدينار ، أو مع الرياسة فكيف أمشي إلى الله؟ بل لن أشعر بحلاوة الإيمان.
وسيدنا عثمان بن عفان قال في ذلك :
{ لو طهرت القلوب؛ ما شبعت من كلام علام الغيوب عزَّ وجلَّ }
إذن تلزم الطهارة أولاً هل يصحُّ أن يقف الواحد بين يدي الله، ويقول: الله أكبر، وينوي الصـلاة، ولم يتطهَّر ويتوضأ لله؟
كذلك لا ينفع للمرء أن ينوي الصلة بالله ، ويبدأ التقرَّب لحضرة الله ، إلا إذا طهَّر قلبه ، ونفسه ، وكلَّه لمولاه. عزَّ وجلَّ ، ولا يكون له مأرب ، ولا مطلب، إلا في حضرة الله .
لكن منا كمريدين من يبغي أن يكون شيخاً ، أو يكون من أهل الكشف ، أو يكون من أهل الكرامة ، أو العلم ، أو الشهود ، لا يجوز مثل ذلك لأن مقام القرب من الله ، ليس فيه أريد، أو أبغي
ولكن فيه ماذا يريد الله عزَّ وجلَّ؟، ولو بقيت تريد كذا، وكذا، وكذا، إذن ما زال مفتاح حضرة الفتاح يلزمه تصليح الأسنان؛ لكي تصبح من أهل القرب من النبي العدنان صلَّى الله عليه وسلَّم.
مرادي أو مرادك قد يكون فسلِّم لا تغيِّرك الشئون
ومن له مراد فإن حال يرفعه وحال يخفضه كلمة تقربه وكلمة تبعده، عمل يجعله كأنه من أهل القرب والوداد، وحال يجعله من أهل الصدود والهجران، وذلك لأنه لم يفرغ القلب لحضرة الرحمن عزَّ وجلَّ. ومن يريد الله أيضاً
قال له سادتنا الكرام:
فكن عبداً لنا والعبد يرضى بما تقضي الموالي من مراد
لابد أن يرضى عن الله عزَّ وجلَّ ، ويسلِّم لله سبحانه وتعالى، وإن كانت واحدة بداخلي تنازعني،فلابد أن أقضي عليها وهي النفسوقد قال الله لمن قالوا نحن أحباء الله
(فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )
(54 سورة البقرة)
وقتل النفس يعني:نزعات النفس، وأهواء النفس في غير الأنس بالله عزَّ وجلَّ، النزعات الدنيوية، النزغات الشيطانية، النزعات التي تدعو إلى الرياسة، أو التي تدعوا إلى الجفاء،كل ذلك يجب على الإنسان أن يقضي عليه، لكي يدخل عالم النور.
إذن يلزم أولاً أن يطهِّر القلب، ويأخذ حظَّ الشيطان منه، ويغسل القلب بماء زمزم. أين ماء زمزم التي سيغسل المريد به قلبه؟، وأين هذا القلب؟
قال الصالحون في ذلك :
{ إن مــاء زمـــزم إشارة إلى علوم المعرفة التي تنزل طازجة فوراً من الله عزَّ وجلَّ في الوقت وفي الحال، كما يحيي الله عزَّ وجلَّ النباتـــات بالأمطار النازلة في كل الجهات، فإن الله عزَّ وجلَّ يحيي القلوب بالرحمات، التي تتنزل على قلوب أهل المعرفة من سيد السادات - عليه أفضل الصلوات وأتمُّ التسليمات }
( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ )
لماذا ؟( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ )(4 سورة الفتح)
وقد قال الإمام أبو العزائم في هذا المقام في حِكَمِهِ العرفانية:
{ كما أن كل ماء لم ينزل من السماء لا ينفع وهذا بالنسبة لري الأرض فكل علم لا ينزل من سماء رسول الله لا يرفع }
فنحن نريد العلم الطازج.
والشيخ العز بن عبد السلام وكان شيخ الإسلام، وكان مجلسه في الفقه لا مثيل له، وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي يقول في مجلسه:
{أبهى مجلس فقه في الأرض، مجلس الفقيه عز الدين بن عبد السلام}
وهذه كانت شهادة عالم الملكوت.
وعندما ذهب الشيخ العز، وحضر مع سيدي أبو الحسن الشاذلي رَضِيَ الله عنه، ومعهم جماعة من العلماء، وتجاذبوا أطراف الحديث في مسألة علمية، وكل عالم أدلى بدلوه، على حسب قراءته وإطلاعه
وأصحاب القراءات والإطلاع عادة ما يكونوا متسرعين، ويريدون أن يخرجوا ما بداخلهم بسرعة، بأي وسيلة، وبأي كيفية، وهذه علاماتهم.
أما العارفون فراسخون ، فلا يريد أن يخرج الكلام، ثم يحدث بعده فتنة أو ملام، ولكنه يخرج الكلام شذرات، وقطرات من المعرفة لأهلها، على فترات .
وبعد أن فرغ العلماء من الحديث، اتجهوا إلى سيدي أبي الحسن وقالوا : نريد أن نسمعك، ولماذا أنت صامت؟
وهذه طبيعة العارفين والصالحين العبودية الكاملة لله عزَّ وجلَّ.
ومن تجده في أي مكان يتكلم ويثرثر فإن ذلك من نفسه، حيث تريد أن تظهر،
لكن العارف لماذا يتكلم؟، إنه مشغول بالله، ولا ينطق إلا إذا أمره مولاه، لأن هذه القلوب تطلب الحكمة من الله عزَّ وجلَّ.
فقال الشيخ أبو الحسن : أنتم سادة الوقت، وكبار العلماء، ما قول فقير مثلي بعدكم؟، فقالوا: لابد وأن تحدثنا، فلما بدأ الكلام، كان كأنه يغترف من بحر، فلم يتمالك الشيخ ابن عبد السلام نفسه، وذلك لأن كلام أهل المعرفة له نور في الصدور، وقد قالوا في ذلك:
{ إذا كان الكلام عن النور, حصل لسامعيه السرور }
فلم يتمالك العزُّ نفسه، ووقف، وأخذ يتحرك يميناً ويساراً، ثم خرج ووقف على باب الخيمة، وأخذ يصفِّق وينادي: هلموا استمعوا إلى هذا العلم القريب عهد بالله عزَّ وجلَّ أين هذا العلم يا إخواني ؟
عند جبـــال المعرفة.عند أوديـــة العارفين .
وأودية العارفين هي قلوبهم ، وجبال المعرفة أفئدتهم ، فأفئدتهم ترتطم فيها أمواج المعارف الربانية ؛ فتسيل أودية بقدرها في قلوبهم، وتخرج من أفواههم لأحبـابهم؛ ليزدادوا بها علماً ونوراً ومقاماً عند الله عزَّ وجلَّ.
ويقول في ذلك الإمام أبو العزائم :
فلقطرة من رحيق راحي تنال منها علماً لدني
الكل مني والكل عني فاشــــــهدْ جمالي بكل عين
سترى الكل من الله،والكل بالله،والكل إلى الله،وتشهد الجمال في كل شيء.
أما غنائم الصَّالحين التي نبحث عنها:
(آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )(65 سورة الكهف)
يريد أن يحظى بتعلِّيم الله له ، علماً بغير تعلم. ولا يشترط لهذا العلم أن يكون الإنسان حاصلاً على ماجستير أو دكتوراه، أو حتى يعرف القراءة والكتابة، ولذلك فإن الإمام أبو العزائم يقول في هذا المقام:
كم جاهل نال علماً من مجالسهم
أضحى حليماً عليماً بالإشارات
أضحى ولياً له قلبٌ و معرفة
يرى النبي عياناً حال خلوات
هذه هي الغنائم لمن يريد الغنائم يا إخواني، ولمن يريد الفتح من الفتَّاح.
وأصحاب العزائم كانوا على هذا المنوال
وقد كان سيدي أحمد البدوي رَضِيَ الله عنه وأرضاه رجلاً من الرجال جاءه سيدي أحمد الرفاعي، وسيدي عبدالقادر الجيلاني في المنام، وهو يعبد الله عزَّ وجلَّ، ويتوجه إليه في غار حراء بمكة، وكان من عزيمته ألا يصلي الصلوات الخمس إلا في البيت الحرام، ويرجع ثانية للغار
ما الذي يخرق للرجال الكرامات؟
العزيمة في الشدات ، تحول أحوالهم إلى كرامات، ولأنه يعزم العزم الأكيد، فيستجيب الله له كأن يُلين له الصخر!، أو يطوي له الأرض، أو يحمله على الريح، ليحقق مراده ؛ فتحدث الكرامات التي نسمع عنها ونراها من الصالحين رضي الله عزَّ وجلَّ عنهم أجمعين .
لكن إذا كان الواحد مستسلماً للنفس، فأي كرامة هذه التي يريدها؟، وأكبر كرامة له في هذه الحالة أن يخرج من رقِّ نفسه، ويقتحم العقبة، ويفك رقبته، وهواه؛ لكي يتجه فوراً مسارعاً إلى مولاه.
كما قلنا كان يصلي الصلوات الخمس في الكعبة، وعندما جاءه سيدي أحمد الرفاعي وسيدي عبدالقادر الجيلاني قالا له:
نريدك أن تزور العراق، وهذا هو مفتاح العراق، والمفتاح هنا هو المفتاح الروحاني، وليس مفتاح المباني، فرد عليهم قائلاً:
أنا لا آخذ المفتاح، إلا من يد الفتَّاح لابد من علوِّ العزيمة.
قال الإمام علي كرَّم الله وجهه عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ الإيمَان (1)
فما الدليل على أن الإيمان رابٍ ونامٍ عندك ؟أن يكون عندك همةٌ وعزيمة ، وقد قال الإمام أبو العزائم في ذلك :
عَلُّوا عزائمكم هيَّــــــــا واعشقوا
لتشاهدوا عدن الجنان وحورها
فما بالكم بمن يريد الله؟إذا كان من يريد الجنَّة عليه أن يعلي العزيمة، كأن يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتلو القرآن، ويغتنم كل وقته في طاعة الله.
لكن من يريد الله فيلزم أن يكون كلُّه، وماله ، وأنفاسه ، وأولاده ، وحياته . كلــــــها لله:
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
(162سورة الأنعام)
وقد نجد بعض إخواننا القدوة ، يعملون بالتجارة ، متعللين أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يشتغل بالتجارة، مع أن عنده ما يكفيه والرد عليهم أن حضرة النبي اشتغل بالتجارة لفترة، لكن عندما كلَّفه الله، ترك كل شيء للاشتغال بمولاه عزَّ وجلَّ، وذلك لأنها تجارة واحدة :
( تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (29سورة فاطر)
لكن هل تنفع التجارة التي لن تبور مع التجارة التي تبور؟ الإثنان مع بعضهما؟كلا. فإما هذه ، أو تلك
ومن يريد الله، عليه أن يصبح كله لمولاه أنفاسه ، حركاته ، سكناته ، حياته كلها لله عزَّ وجلَّ ويقول لحضرة الله : إِنَّا لِلّهِ )
وهنا يعبِّر بنون الجمع إنَّا يعني أنا ، ونفسي ، وروحي ، وعقـلي ، وسرِّي ، وكلِّي ، ومالي ، وأهلي لله ( وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) (156) سورة البقرة
هنا يتحقق الرجوع ، ويرجع الإنسان .لكن يقول : إنا لله ، وهو مشغول بالكليَّة بنفسه ، أو بحظِّه ، وهواه ، والله عزَّ وجلَّ لا يرضى أن يشتغل العبد بسواه إذا أراد الله عزَّ وجلَّ .فإذا أردت الله فعليك :
فرِّغ القلب من سوانا ترانا يا مريداً جمالنا و بهانا
واعلُ فوق البراق ليــلاً فإنَّا نتجلَّى ليــلاً لمن يهوانا
وهذا هو الطريق لمن يريد الله فيأخذونه ، ويشقُّوا صدره ، ويخرجوا منه حظَّ الشيطان وحظُّ الشيطان في الإنسان جمعه الله في كلمة واحدة:
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) (47 سورة الحجر)
وإياك أن تبدأ إلى الله إلا عندما تتأكد انك تخلصت من الغلِّ تماماً ؛ لأنك بذلك لن تمشي ولا خطوة اعبد كما شئت، واذكر الله كلما أردت
لكن كل ذلك لن يرفع الحجب بينك وبين الله، ولن ينفعك في القرب من حضرة الله، إلا إذا تخلَّصت قبل ذلك من كلِّ ما في صدرك نحو خلق الله، من الغلِّ، والكبر، والحسد، والكره، والهوى .
فلا يوجد من تخلع عليه خلعة الرجال ويقرب من السادة الإبدال وفي نفسه أو قلبه هوى لغير الواحد المتعال عزَّ وجلَّ.
لكن إذا كان هواي مع فلان ، أو فلان ، أو مع الدرهم ، والدينار ، أو مع الرياسة فكيف أمشي إلى الله؟ بل لن أشعر بحلاوة الإيمان.
وسيدنا عثمان بن عفان قال في ذلك :
{ لو طهرت القلوب؛ ما شبعت من كلام علام الغيوب عزَّ وجلَّ }
إذن تلزم الطهارة أولاً هل يصحُّ أن يقف الواحد بين يدي الله، ويقول: الله أكبر، وينوي الصـلاة، ولم يتطهَّر ويتوضأ لله؟
كذلك لا ينفع للمرء أن ينوي الصلة بالله ، ويبدأ التقرَّب لحضرة الله ، إلا إذا طهَّر قلبه ، ونفسه ، وكلَّه لمولاه. عزَّ وجلَّ ، ولا يكون له مأرب ، ولا مطلب، إلا في حضرة الله .
لكن منا كمريدين من يبغي أن يكون شيخاً ، أو يكون من أهل الكشف ، أو يكون من أهل الكرامة ، أو العلم ، أو الشهود ، لا يجوز مثل ذلك لأن مقام القرب من الله ، ليس فيه أريد، أو أبغي
ولكن فيه ماذا يريد الله عزَّ وجلَّ؟، ولو بقيت تريد كذا، وكذا، وكذا، إذن ما زال مفتاح حضرة الفتاح يلزمه تصليح الأسنان؛ لكي تصبح من أهل القرب من النبي العدنان صلَّى الله عليه وسلَّم.
مرادي أو مرادك قد يكون فسلِّم لا تغيِّرك الشئون
ومن له مراد فإن حال يرفعه وحال يخفضه كلمة تقربه وكلمة تبعده، عمل يجعله كأنه من أهل القرب والوداد، وحال يجعله من أهل الصدود والهجران، وذلك لأنه لم يفرغ القلب لحضرة الرحمن عزَّ وجلَّ. ومن يريد الله أيضاً
قال له سادتنا الكرام:
فكن عبداً لنا والعبد يرضى بما تقضي الموالي من مراد
لابد أن يرضى عن الله عزَّ وجلَّ ، ويسلِّم لله سبحانه وتعالى، وإن كانت واحدة بداخلي تنازعني،فلابد أن أقضي عليها وهي النفسوقد قال الله لمن قالوا نحن أحباء الله
(فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )
(54 سورة البقرة)
وقتل النفس يعني:نزعات النفس، وأهواء النفس في غير الأنس بالله عزَّ وجلَّ، النزعات الدنيوية، النزغات الشيطانية، النزعات التي تدعو إلى الرياسة، أو التي تدعوا إلى الجفاء،كل ذلك يجب على الإنسان أن يقضي عليه، لكي يدخل عالم النور.
إذن يلزم أولاً أن يطهِّر القلب، ويأخذ حظَّ الشيطان منه، ويغسل القلب بماء زمزم. أين ماء زمزم التي سيغسل المريد به قلبه؟، وأين هذا القلب؟
قال الصالحون في ذلك :
{ إن مــاء زمـــزم إشارة إلى علوم المعرفة التي تنزل طازجة فوراً من الله عزَّ وجلَّ في الوقت وفي الحال، كما يحيي الله عزَّ وجلَّ النباتـــات بالأمطار النازلة في كل الجهات، فإن الله عزَّ وجلَّ يحيي القلوب بالرحمات، التي تتنزل على قلوب أهل المعرفة من سيد السادات - عليه أفضل الصلوات وأتمُّ التسليمات }
( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ )
لماذا ؟( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ )(4 سورة الفتح)
وقد قال الإمام أبو العزائم في هذا المقام في حِكَمِهِ العرفانية:
{ كما أن كل ماء لم ينزل من السماء لا ينفع وهذا بالنسبة لري الأرض فكل علم لا ينزل من سماء رسول الله لا يرفع }
فنحن نريد العلم الطازج.
والشيخ العز بن عبد السلام وكان شيخ الإسلام، وكان مجلسه في الفقه لا مثيل له، وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي يقول في مجلسه:
{أبهى مجلس فقه في الأرض، مجلس الفقيه عز الدين بن عبد السلام}
وهذه كانت شهادة عالم الملكوت.
وعندما ذهب الشيخ العز، وحضر مع سيدي أبو الحسن الشاذلي رَضِيَ الله عنه، ومعهم جماعة من العلماء، وتجاذبوا أطراف الحديث في مسألة علمية، وكل عالم أدلى بدلوه، على حسب قراءته وإطلاعه
وأصحاب القراءات والإطلاع عادة ما يكونوا متسرعين، ويريدون أن يخرجوا ما بداخلهم بسرعة، بأي وسيلة، وبأي كيفية، وهذه علاماتهم.
أما العارفون فراسخون ، فلا يريد أن يخرج الكلام، ثم يحدث بعده فتنة أو ملام، ولكنه يخرج الكلام شذرات، وقطرات من المعرفة لأهلها، على فترات .
وبعد أن فرغ العلماء من الحديث، اتجهوا إلى سيدي أبي الحسن وقالوا : نريد أن نسمعك، ولماذا أنت صامت؟
وهذه طبيعة العارفين والصالحين العبودية الكاملة لله عزَّ وجلَّ.
ومن تجده في أي مكان يتكلم ويثرثر فإن ذلك من نفسه، حيث تريد أن تظهر،
لكن العارف لماذا يتكلم؟، إنه مشغول بالله، ولا ينطق إلا إذا أمره مولاه، لأن هذه القلوب تطلب الحكمة من الله عزَّ وجلَّ.
فقال الشيخ أبو الحسن : أنتم سادة الوقت، وكبار العلماء، ما قول فقير مثلي بعدكم؟، فقالوا: لابد وأن تحدثنا، فلما بدأ الكلام، كان كأنه يغترف من بحر، فلم يتمالك الشيخ ابن عبد السلام نفسه، وذلك لأن كلام أهل المعرفة له نور في الصدور، وقد قالوا في ذلك:
{ إذا كان الكلام عن النور, حصل لسامعيه السرور }
فلم يتمالك العزُّ نفسه، ووقف، وأخذ يتحرك يميناً ويساراً، ثم خرج ووقف على باب الخيمة، وأخذ يصفِّق وينادي: هلموا استمعوا إلى هذا العلم القريب عهد بالله عزَّ وجلَّ أين هذا العلم يا إخواني ؟
عند جبـــال المعرفة.عند أوديـــة العارفين .
وأودية العارفين هي قلوبهم ، وجبال المعرفة أفئدتهم ، فأفئدتهم ترتطم فيها أمواج المعارف الربانية ؛ فتسيل أودية بقدرها في قلوبهم، وتخرج من أفواههم لأحبـابهم؛ ليزدادوا بها علماً ونوراً ومقاماً عند الله عزَّ وجلَّ.
ويقول في ذلك الإمام أبو العزائم :
فلقطرة من رحيق راحي تنال منها علماً لدني
الكل مني والكل عني فاشــــــهدْ جمالي بكل عين
سترى الكل من الله،والكل بالله،والكل إلى الله،وتشهد الجمال في كل شيء.
(1)مرقاة المفاتيح .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]