أبو فرحان نجم العباس:
هو الذي عاش أحداث الثورة السورية الكبرى وما تلاها من نزوح الثوار إلى وادي السرحان ولا عجب أن نراه يعيش هذه الأحداث في شعره فهو الذي ولد وعاش وترعرع في ملح وحين تذكر الثورة السورية لابد أن يذكر بيرق ملح الذي كان له الدور الأكبر في التعجيل بإشعال الثورة ولهذا فقد رأينا الشاعر نجم العباس وهو ابن ملح البار يفاخر في انتمائه إلى ملح حين يمتدح قائد الثورة سلطان باشا الأطرش :
قاصد معنـّى لجْل مدحك من ملح .... حيث شخصك يا صميدع من ملاح
وحين يمدح الشاعر سلطان باشا الأطرش فإنما يمدح رمز الثورة , وكأنما يخص بمدحه كل أولئك الذين صنعوا مجد هذا الوطن . إذ يقول من المخمّس مردوف :
انـــت حيداً وانت شــــيّال الحمال .... إنت بذلك عدّهو نهراً حمل
يا غضنفر هاج عا خصمو وحمل .... لو تغــذى ديد لــبوة عاللبا
ســــلطان ريــبالاً تــقــدّم عـــاللبا .... حرٍّ نبع من طود عالي وَ علي
ولقد كان الشاعر معنياً بالوضع العام متابعاً له ودليلنا على ذلك أن المرحوم زيد الأطرش , حين أراد أن يعرف ما يدور في الجبل , أثناء نزوح الثوار إلى الكرك الأردنية لم يجد أكفأ من الشاعر نجم العباس كي يضعه بصورة الوضع العام في الجبل, وما آلت إليه الأمور فأرسل الشاعر إليه مجيباً من المخمّس :
يا زيد فكر ما يلي وزين صرفها .... عمْلي ثميني خاص مكفول صرفها
تنشد عن احوال الجبل كيف صار فها ....لعبوا بها العمّال يا زيد بالزود
بعد الذي سدّوا المدافع على الكل
ولدى استعراضنا لهذه القصيدة نرى أن الشاعر خرج عن المباشرة التي في شعره شأن الشعراء الشعبيين جميعاً وذلك عندما يصوّر طباع الناس جميعاً وأخلاقهم وتبدلهم , ويسوق حكمه ونصائحه في عدم مصاحبة اللئيم وعدم تصديق الكاذب وعدم ائتمان الخائن في إشارة إلى أن أحوال الناس قد تغيرت نتيجة تغير الظروف وهذا لعمري ما جعل هذه القصيدة مميزة .
ولا ينسى الشاعر أصدقاءه المجاهدين في سجون العثمانيين ونجد أمامنا القيم نفسها التي يعتز بها الشاعر ماثلة في شخصيات أصدقائه من مروءة وكرم وسداد رأي , وهي جزء هام من شخصية وجهاء القوم .
فهاهو يتذكر الشاعر اسماعيل العبد الله في سجن سامي باشا الفاروقي في دمشق 1912 فيرسل له قصيدته مع رسول على عادة الشعراء الشعبيين ويوصي الرسول قائلاً :
يسألونك وين بدّك يا رسيل .... قل لهم قاصد لحضرة بو حمد
كان هم ما اطلقوا لك السبيل .... قلـّط عروضات لمحمد رشاد
.... كما أنه يهنئ المجاهد حمد البربور بعد خروجه من السجن المذكور مع رفاقه المجاهدين :
يا حمد رايك عالمخاليق بيكمّ .... ومعلـّماً للجود من دور بيكم
حمدت انا المعبود العاد بيكم .... ربــك كريم وللمخاليق والي
.............. وخلاصة القول :
فقد كان نجم العباس ابن بيئته انساناً وشاعرا .... وقد مثل شعر تلك الحقبة من الزمان والتي جنحت نحو الصنعة البدعية جنوحاً واضحاً وبخاصة الجناس واختار الشاعر نمط المخمس مردوف في كثير من قصائده إذ يعتمد هذا النمط من الشعر على الجناس الذي تنتهي به الأشطر الثلاثة الاولى ثم يتغير الجناس في الشطرين الرابع والخامس ليشكلا جناسا جديدا ثم يردف هذه المخمسة بشطر سادس بقافية الجناس الاولى مثل:
ابـديت بيحـســــن الـقوافي بـدّل ِ .... من لجّ طامي ليس غرفاً بالدلي
ياصاح منه ارويت قبل ان بدلي .... عندي قواعد جيت قاعد خطـّبا
كلـّوا السـواعد عالكواغد خطـّبا .... شبه الرواعد يوم قامــت تهطلي
وقد لجأ الشاعر الى القصائد المخمسة ولكن بدون ترديف مثل:
الـبارحة ما كنّ ونــّي بــنوبها .... وكنـّي شطنـّي صــل صلدا بنوبها
لو دقت طبول الوزارة بنوبها .... ما يفرج العطشان رزمات الرعود
ولا نظفوا قلب الملوّع من الغل
وقليلاً ما لجأ إلى المربعات في قصائده :
ابديت باســم الله رب البرايا .... كل الخلق والناس تمشي برايه
ومطيلع الحنطة وتعقد برايه .... مكوّن الكونين قــبلي وشـمالي
أما القصائد المثناة فلم يجانسها عدا واحدة , تلك التي يعارض بها سلمان نفاع وقد تم الجناس بين القافية والكلمة التي تسبقها :
يا شين قلبي من عملكم اكتوى...........من بعد ما وديتني وديتني
وإذا كان لنجم العباس من ميزة بين شعراء عصره فانه قد التزم محكيّة الجبل في الغالب الأعم وقلما مال إلى اللهجة البدوية التي كلف بها الشعراء الشعبيون وبخاصة في الشروقي وما زالوا حتى اليوم يعتمدوها في أشعارهم .
الشاعر :
هو نجم العباس أبو إسماعيل . من مواليد ملح سنة 1888م , أخذ مبادئ القراءة والكتابة عن شيخ القرية . لكن مدرسته الحقيقية كانت الحياة , أصغى إلى أصواتها المتنوعة , وتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً ,فلقنته دروساً مفيدة وأكسبته خبرة عالية في مجالات شتى .
قرب مطاحن (عرى ) نزف على يديه أخوه محمد , وقد أصيب برصاصة حفرت مجرى لها من الصدر إلى الظهر ,كما استقبل على أرض ( رساس ) ابن عمه أجود وقد تخضب بدمه , وهو يخترق مع رفاقه سحابة من رصاص العدو , وأثناء اقتحام خنادق( المسيفرة )كان دور أخيه حمود , فقد حفرت شظية في جبهته وساماً رافقه حتى آخر يوم من حياته .
كانت السهرات بحضور أبو فرحان تزداد حرارة وتصبح أحلى , وقد زادته خؤولة سلامي أبوعاصي الشاعر الراوية المحدث نديم الملوك ( طيباً على طيب )
عرفه قائد الثورة سلطان باشا الأطرش فأحبه وجعله بين مستشاريه وندمائه فمحضه وداً صافياً
وشعراً معبراً حارّاً
كان ذا حضور اجتماعي كبير وكثيراً ما أفلح باعتباره قاضياً عشائرياً , في فض نزاعات محلية شائكة , أما النزاعات الوطنية فقد كان له دور رئيس في تقريب وجهات نظر الأطراف المختلفة تقرأ ذلك في قصيدته إلى محافظ الجبل عارف النكدي , وقصيدته إلى المجاهد هلال عز الدين الذي بارك وشجع مساعي الوفاق الوطني .
عاكسته الأيام في مسيرة البحث عن الكفاف فانقلب عليها واكثر من هجائها شأنه شأن الكثير من سابقيه ومعاصريه .
مضى نجم العباس إلى جوار ربه عام 1976 م , بعد أن ترك أثراً ذا قيمة فكرية وفنية تتناقله الأجيال .