يعتبر القمح والخبز من نعم الله على الإنسان، فهو يعد عبر
التاريخ الطويل الغذاء الرئيسي له، وظل على الدوام رمز الخير والنعمة والحياة
وعندما يؤمن الإنسان خبزه (كفاف يومه) يضمن أنه لن يموت جوعاً، وقد درجت العادة منذ
الصغر أنه عندما يُسقط أحدهم قطعة من الخبز على الأرض يلتقطها ويقبلها ويضعها على
رأسه قائلاً: «سامحني يا ربي، الحمد لله على هذه النعمة».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
قد تكون رحلة حبة القمح منذ
نثرها على الأرض إلى أن تصبح رغيف خبز بكافة أشكاله، من أطول الرحلات التي يقطعها
كائن حي على وجه البسيطة، وقد اختلفت قديماً طريقة زراعتها بين منطقة وأخرى، وظلت
الطريقة التقليدية المعتمدة في محافظة "السويداء" بالزراعة على (الفدان) دارجة إلى
أن وصلت الطرق الحديثة في منتصف القرن العشرين وما تلاه.
يقول الباحث في التراث الشعبي، الأستاذ "سلمان البدعيش" لموقع
eSuweda مستعرضاً بعض تفاصيل هذه الرحلة: «ينثر الفلاح حبوب القمح على وجه الأرض من
قبضة يده قائلاً: «أنا العازق وربي الرازق». فإن موسمه الزراعي الذي ترتبط به حياته
مرهون بكرم السماء، فإن أمطرت وكان مطرها كافياً يكون موسمه جيداً، ويكفي لتأمين
حاجاته الغذائية، وإن شح المطر فأن آماله تطمر مع حبة القمح، وبين بذر حبة القمح
وطمرها تحت التراب وتناولها خبزاً في الفم رحلة طويلة من العناء والعرق والجهد
والصبر والأمل والدعاء، حيث يصار إلى بذر القمح في الأرض بين شهري تشرين الثاني
وكانون الأول من كل عام لمن أراد أن يزرع بطريقة (العفير) وهي تعني بذر الأرض قبل
أن تمطر السماء كي يكسب الفلاح الهطولات المرجوة من أول شتوية، ولكن لهذه الطريقة
محاذيرها، فإذا نبت القمح وانحبست الأمطار لمدة طويلة فإن نبات القمح يجف وييبس
ويخسر الفلاح موسمه، وكذلك فإن هذه الطريقة تتيح للنباتات الطفيلية من الأشواك
والأعشاب الضارة أن تنبت في وقت واحد مع القمح مما يصعّب عملية حصاده فيما بعد.
ويقوم الفلاح بالبذر بنثر القمح بيده ليتوزع
على الأرض بشكل متساوي الأبعاد بين الحبة والأخرى بقدر الإمكان، ويأخذ القمح لبذره
بيده من كيس يشبه المخلاة معلق في وسطه من الأمام، وكلما فرغ الكيس عبأه من جديد،
وبعد بذر الحبوب يقوم الفلاح بحراثة الأرض لطمرها .
أما الطريقة الثانية فينتظر المزارع حتى تمطر السماء وتروى الأرض
وتنبت الأعشاب الطفيلية التي تسمى (الغريبة) فيقوم ببذر القمح وفلاحة الأرض كي يطمر
الحبوب ويقضي على الأعشاب الضارة».
كانت
الزراعة وما يتبعها من أعمال الحصاد والبيدر وصولاً إلى (كواير) القمح أو مخزنها
الرئيسي تتم عبر أناس متخصصين، وهم على الأغلب من الفقراء الذين لم يكن لديهم أرضاً
يزرعونها، وقد قسمهم الباحث "البدعيش" إلى أربع عمال، حيث قال:«لم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
الحراثة على حيوانين |
في بدايات السكنى الأولى للجبل تقسيم للأراضي، وهي كانت مقتصرة على العائلات
الكبيرة التي تمتلك الجاه والمال، وكان يعمل في الأرض عمال دائمون وموسميون، وقسموا
على الشكل الآتي: (فالمرابع) الذي يأتي أولاً، وهو عامل دائم على مدار السنة، وفي
الحقيقة هو العامل الدائم في كل شيء غير الزراعة، وكان ركناً من أركان المنزل، وله
ربع الإنتاج. أما (الصيّوفي) فهو عامل موسمي يقوم بالحرث والزراعة طيلة موسم
الفلاحة ولكنه لا يشارك في أعمال الحصاد والبيدر، ويأخذ حصته في نهاية الموسم، أي
كما يسمونه بالعامية (على البيدر) ضمن اتفاق مسبق مع صاحب الأرض. أما العامل الثالث
فيسمى (حراث مياسيسي) وقد سمي كذلك نسبة إلى (المساس) الذي يستخدم لحثّ الحيوانات
على السير أي العصا، وهو عامل حراثة يومي. ويبقى الرابع الذي يسمى الوقاف أو الخولي
ويتركز عمله على مراقبة كامل عمليات الحصاد والبيدر حتى نهاية الموسم .
يستخدم للقيام بعملية حرث الأرض زوج من
الثيران يسمى (فدان) أو رأس واحد من الخيل (كديش أو كديشة) لجر المحراث المزود بسكة
من الحديد لشق الأرض .
يقول الأستاذ
"إبراهيم أبو كرم" رئيس لجنة "شهبا" في جمعية العاديات، والمهتم في التراث: «يستخدم
لفلاحة الأرض رأس واحد أو اثنان، وفي الحالة الأولى يوضع المحراث الذي يسمى (العود)
وهو مصنوع من خشب السنديان المتين والمقاوم لعوامل الطقس، حيث يوضع على رقبة
الحيوان طوق أسطواني محشو بالقش وقطره حوالي 20 سم يلبّس جزؤه الخارجي بقطعة من
الكاوشوك الداخلي لعجلات السيارات، والداخلي بقطعة من الخيش وهي التي تلامس رقبة
الحيوان ، وتسمى(الكدّانة)، وهي كلمة سريانية بالأصل حيث تلف الكدانة حول رقبة
الحيوان ويضم طرفاها إلى بعضهما أسفل رقبة الحيوان ويدخل بهما ما يشبه الشيش
المعدني بحيث يدخل من جهة ويخرج من الجهة الثانية يسمى (الخلال) أحد رأسيه مدبب
والرأس الثاني يلوى على شكل حلقة يثبت بواسطة قطعة من المرس الرفيع بلفها عدة مرات
حول الكدّانة الواصلة بين رأسي الخلال ثم تعقد للتثبيت، بعد ذلك توضع أمام الكدانة
على رقبة الحيوان قطعة خشبية على شكل العدد 8 يثبت على جانبيها من اليمين واليسار
(رزّة) معدنية تنتهي بحلقة، وهاتان الرزتان تتصلان مع حلقتين أخريين مثبتتين
برزّتين متصلتين بوصلتي العود، تتصل
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
رسم توضيحي للعود المخصص للحراثة القديمة |
الفخذة )، والفخذتان تثبتان على جانبيه القطعة التي تعتبر العمود الفقري للعود
وتسمى (القطعة)، (إذا توفر الخشب المناسب يمكن أن تكون الفخذتان والقطعة جزءاً
واحداً على شكل الشاعوب)، والقطعة هذه تثبت بها قطعتان الأولى تسمى الذكر وهو
الواصل بين السكة والجزء الخلفي من العود، والثانية تسمى الناطح الذي يشكل زاوية
منفرجة بين القطعة والذكر.
أما آخر جزء
من العود من الخلف فتسمى (الكابوسة) التي يمسك بها الفلاح بيده اليمنى والتي تتصل
بقطعة خشبية تمتد إلى الأمام والأسفل لتتصل مع الذكر. وتوجد قطعة خشبية صغيرة مثل
الخابور تدخل في فجوة تحت الناطح وتدق لتزيد من تثبيت أجزاء العود إلى بعضها. وتوجد
خلف (القطعة) وتحت الذكر قطعة صغيرة أخرى تسمى (القردة) أو (الشطفة) وهي سميكة من
ناحية ومن الناحية الأخرى رقيقة تستخدم لدوزان السكة أي رفعها أو خفضها للحصول على
العمق المناسب الذي يجب أن تنزل به السكة في الأرض، وعندما يكون وضع السكة عامودي
أكثر على الأرض بحيث يسمح لها بالغوص إلى عمق أكثر تسمى السكة (نابهة) أما إذا كان
غوصها في الأرض أقل فتسمى (زاحلة)، وفي النهاية يدق مسمار حديدي في الفجلة من
الأسفل يسمى (قطريبة) ليمنع خروج السكة من الفجلة، ومن أجل حث الحيوان على السير
يمسك الفلاح بيده (مقرعة) وهي عبارة عن عصا تنتهي بقطعة طويلة من المرس أو الجلد
ليضرب بها الحيوان».
عن حاجة الأرض
للمطر حتى تشق حبة القمح مشوارها الأول نحو الشمس، قال المهندس الزراعي "بيان
صالحة": «لا بد من توفر شرط هام للزراعة، وهو أن تروى الأرض بأمطار الشتاء بحيث
تنزل إلى عمق حوالي 50 سم في التربة على الأقل ويكون هذا الشرط مثالياً، أما إذا
قلّ عن ذلك فيصبح احتمال نجاح زراعة الحبوب قليلاً، وفي حال لحق الري الجديد في
أعماق التربة بالتراب المروي من العام الماضي وما زال رطباً فيقال في هذه الحالة
(لحق الري بالري وبتعبير شعبي آخر يقال ( نيّرت) أي بلغ عمق الري طول النير الذي
يستخدم في الفلاحة على حيوانين، ويجب أن لا تقل كمية الأمطار السنوية عن 300 مم كحد
أدنى موزعة على عدة إمطار من الشهر
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
العود كما بدى في إحدى قرى الجبل التي ما زالت تستخدمه |
الرابع من العام، فإذا أمطرت خلال الشهرين الأول والثاني ثم حبس المطر فلا يكمل
الزرع نموه ولا تعقد السنابل، وبهذه الحالة ترعاه الحيوانات وهذا ما يعوض نسبياً من
خسائر المزارع».