الإسكافي ...........البطل
يقول الراوي المرحوم العم عطاالله الزاقوت
دخلت دكانه لإصلاح حذائي وتوفيراً لنقودي وتلك عادة أهل الريف أمثالي . فليس هناك
شعوب تنتظر (الخلعي العربي) لأننا لا نترك في عمر كسوتنا بقيه
كان في الخمسينات من عمره. يجلس على كرسي عتيق من الخشب وراء سندانه
وقد أطبق شفتيه على بضعٍ من مسامير وراح يتناول واحد بعد الأخر منها بأصابعه
الملوثه ويغرسها في نعل الحذاء الذي لان واستكان تحت ضرباته القويه
كان اسكافياً ماهراً وقد استرعى انتباهي تقلقله فوق كرسيه . وبالتدقيق
تبين لي أن إحدى ساقيه مبتوره , واستعاض عنها بساقٍ خشبيه , فلا تتحرك من ذاتها بل بتدخلٍ
من يده
كما لفت نظري لوحة معلقه على الجدار فوق رأسه وقد كُتب عليها بخطٍ ردئ
بيتاً من الشعر أظنه لأمير الشعراء أحمد شوقي وهو:
إنا نجاهد كي يرضى الجهاد بنا................ولا نجاهد كي يرضى بنا عُمر
ودعاني فضولي لأسأل الإسكافي , والذي لم يبدُ لي حزيناً ولا مسكيناً
وكأني بثيابه قد امتلأت إباءً وعنفواناً ,فقلت:
هل حدثتني أيها العم الكريم حكاية ساقك المبتوره ؟؟ لأني أشم منها ما تطفح
به من عزةٍ وكرامةٍ .........ولم يجب الإسكافي على سؤالي بل بادرني هو
بالسؤال التالي :
من أي بلدةٍ أنت ؟؟ قلت : أنا من بلدة القريا
قال: يعني أنت من بلد الباشا سلطان ؟؟
قلت نعم أنا كذلك..........قال: إذاً اذهب إلى الباشا سلطان واسأله ما سألتني
فعنده فصل الخطاب ...............فعجبت لهذا الرجل كيف يحيلني إلى سلطان الأطرش
ليجيب عنه ........فهذا يعني أن هناك معرفه حقيقيه وعلاقه قويه بين الإسكافي وسلطان
لقد كبر الرجل بعيني وأحسست أن بالأمر سراً ويجب البحث عنه وإلا كيف ينيب
هذا الإسكافي القائد العام للثوره السوريه الكبرى للإجابه عنه ؟؟فعلاً هي قصه تثير الفضول
وسلمني الإسكافي حذائي بعد إصلاحه وخرجت من عنده شاكراً.......................
وبعد أيام ضمتني مضافة سلطان الأطرش مع لفيف من الرجال وسردت على مسامعه حكاية
الإسكافي
الذي صادفته في السويداء.....فابتسم سلطان وفرك جبهته بإصبعه وكأنه يحرض ذاكرته لتسعفه
في إعطاء الجواب وراح يقص علينا الحكايه ..........التي توقف لها النفس وتخترق جدار الحياة
وبدوري سأعيد الحكايه وبتصرف قليل , علني أفوز بالمشاركه الوجدانيه من القارئ الكريم
الزمان ربيع العام /1926/ إبان احتدام معارك الثوره السوريه الكبرى
المكان: وعرة اللجاه والتي يوحي منظرها بأنها صفحاتٍ مكتوبه بقلم الدهر على وجه القشره
الأرضيه
في ربيع تلك السنه قررت قيادة الجبش الفرنسي إنهاء الثوره في عقر دارها وإخمادها في
أحصن قلاعها
وأعدت لهذا العمل الخطير عدته, وبالمقابل قررت قيادة الثوره نقل نشاطها إلى وعرة اللجاه
والأستماته في الدفاع عن الجبل فلقد كانت اللجاه وعلى مر التاريخ أهم معقل يباشر فيه
المقاومون الكّر والفر
وإصابة عدوهم بأفدع الخسائر
كانت معركه حامية الوطيس .تلك التي جرت بجوار قرية ((صميد)) البطله في عمق اللجاه
فقد عاد منها المجاهدين منتصرين بعد جهادٍ مرير
كانت المعنويات مرتفعه لأن القائد العام سلطان الأطرش معهم وبينهم وأخذ كل واحدٍ منهم
يروي ما حصل معه في تلك المعركه
ودخل أحد أبناء القريه ودعا سلطان ورفاقه لشرب القهوه (المره) في مضافته القريبه
وقُبلت الدعوه .......ونهض سلطان ليخرج من الباب وإذ به يُفاجأ بأحد المجاهدين يمد رجله
أمامه على طولها في عتبة الباب ليمنعه من الخروج
وسأل سلطان الرجل ......يا هذالمَ تمد رجلك هكذا ؟ أزح رجلك ودعنا نمر
وأجاب المجاهد ........رجلي ؟؟..........ألا ترى رجلي ؟؟أعميت عن النظر إليها؟؟
انظرها جيداً..............!!!وانحنى القائد العام يتفحص رجل المجاهد , وقد تناثر كعبها وتهشم
وغرق في الدماء ........وتراجع سلطان إلى الوراء مذهولاً وهو يقول :
يا لطيف ..........يا لطيف ..........ماذا أرى إنه الدود يملأ الجرح وقد تحولت الرجل المصابه
إلى عشٍ من الدود لا يهدأصاح سلطان منادياً الطبيب والزعيم المناضل عبد الرحمن الشهبندر .........تعال وانظر معي
وتقدم الدكتور وتفحص رجل المجاهد , ثم هزّ برأسه وصمت !!!!
وظهرت على وجهه علامات الحزن والغضب ............ثم التفت إلى سلطان الأطرش
الذي قرأ في عينيه مختصر البيان , وقال نعم يا باشا رأيت الوضع المأساوي
إن الغارغرينا قد فعلت فعلتها في رجل المصاب وحتى تُنقذ حياته لا بد من قطعها
ماذا ؟؟ أجاب سلطان ...........
نعم يجب بتر الرجل من الركبه لأن العظم قد تسوس ...........وحياة المجاهد في خطر
وذُهل القائد وذُهل الحاضرون ........وتحلق الجميع حول الطبيب.......علهم يلمحون
بصيص أمل يسلم فيه المجاهد وتبقى رجله معه
إن رجل البطل ثمينة عندهم طالما حملته في هجومه وصموده
واتجهت كل الأنظار نحو المجاهد حاملة الإشفاق والأسى.........................
ولسان حالهم يقول لا حيلةً لنا بقطع الساق ليبقى المجاهد لنا
وقطع الصمت صوت المجاهد المصاب :
اقطعها ..........وماذا تنتظر ؟؟ اقطعها يادكتور اقطعها لأنها جبانه
ولم تصمد كنت أتمنى أن تبقى معي حتى الموت أما الأن
فاقطعها وهذا جزاؤها
ويرفض الطبيب إجراء العمليه , بحجة عدم توفر المخدر والأله .......
ويقول سلطان بحسرة : من أين لنا البنج والدواء؟ فالصليب الأحمر, وحضارة عالم الغرب , لم تدخلنا
في برامجها
ويقول المجاهد المصاب:
إن كان هذا هو المانع فاقطعها يا دكتور ..........ولا تخف اقطعها دون بنج .........!!!
وأعدك أني لن أزعجك أبداً ..........هيا تشجع يا دكتور واقطع رجلي
وسأكون إن شاء الله من الصابرين . ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم
هيا اقطعها يا حكيم ..........أبشر فأنا صامد ..........!!!
وبدأت العمليه....جلس المصاب على كرسي من خشب .......وأسند الرجل البائسه
على كرسي آخر قابلته........وشابك أصابع يديه وراء ظهره وقال
لعيونك يا حكيم .........أقطع..........
أحضر الطبيب منشار نجار ....وطهرها بإحمائها على النار حتى احمّر حديدها
ثم بدأت العمليه الجراحيه , وبدأ ينشر اللحم والعظم والعصب والعروق الدمويه
دون مخدر , بمنشار نجار كما ينشر الحطاب قطعة الخشب اليابسه
وفرّ جميع المجاهدين من البيت الذي شهد العمليه , من حول المصاب الذي يسحقه الألم
حتى سلطان الأطرش الصامد لم يصمد لهذا المنظر , فقد أشاح بوجهه جانباً وخرج مع
رفاقه الذين خرجوا ولم يبقَ في البيت إلا المصاب والطبيب ومنشار النجار
كان العرق يتصب غزيراً من وجه المجاهد ....ويسبح فوق الجبين والرقبه
وقد احتقنت عروقه وأوردته حتى كادت تنفجر .......وتتناوب الألوان على وجهه
المتغصن بين شحوب واصفرار واحمرار.......وارتعشت الأيدي والأرجل وشُدت الأسنان على
الشفه
وانحبست الأنفاس وتباطأ الشهيق والزفير ,
تلك كانت أبجديات هذه العمليه التي يصعب تصديقها . مع أنها كانت الحقيقه الباديه للعيان
وحضر حدوثها جمع من الرجال ومعهم سلطان الأطرش .........ولم يكن الطبيب أقل تأثراً من
المجاهدين ........ولكن لا بديل...........وبعد لحظات انفصلت الرجل التعيسه وسقطت إلى
الأبد
ما أروع البطل وما أروع صموده وقدرته على التحمل ..............
ودخل بذلك دنيا الأساطير .........لقد كان البطل هو الجسر الذي تعبر عليه الأمم للعبور
إلى شاطئ الأمان ......ينقلها من القلق إلى الإستقرارومن التردد إلى الحزم وما هو كائن
إلى ما يجب أن يكزن ........أو على الأقل إلى الإتجاه الصح
تلك قصة البطل ذي الرجل الخشبيه _ والذي عمل باقي عمره اسكافي في تصليح
الأحذيه ..............!!!!!!!!!!!
إنه البطل (بشير جعفر)
أما اللوحه التي رفعها فوق رأسه فكانت علامة الشموخ والإباء عن استجداء
حكام وطنه في ذلك الزمان . فقد جاهد من أجل الوطن وليس من أجل شئ
غيره..................